فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوز أن يكون تعليلًا لمقتهم أنفسهم وإذ متعلق بمقت الثاني فهم مقتوا أنفسهم لأنهم دعوا مرارًا إلى الايمان فكفروا، والتعبير بالمضارع كما في الوجه السابق، وزمان المقتين كذلك، والعلة في الحقيقة إصرارهم على الكفر مع تكرر دعائهم إلى الايمان، وجوز أن يكون تعليلًا لمقت الله و{إِذْ} متعلقة به، ويعلم مما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما عليه وما له، وظاهر صنيع جماعة من الأجلة اختيار كون {إِذْ} ظرفية لا تعليلية فقيل: هي ظرف لمقت الأول، والمعنى لمقت الله تعالى أنفسكم في الدنيا إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون أشد من مقتكم إياها اليوم وأنتم في النار أو وأنتم متحققون إنكم من أصحابها فزمان المقتين مختلف، وكون زمان الأول الدنيا وزمان الثاني الآخرة مروي عن الحسن، وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد، واعترض عليه غير واحد بلزوم الفصل بين المصدر وما في صلته بأجنبي هو الخبر، وفي أمالي ابن الحاجب لا بأس بذلك لأن الظروف متسع فيها، وقيل: هي لمصدر آخر يدل عليه الأول أو لفعل يدل عليه ذلك كما في البحر.
وفي الكشف فيه أن المقدر لابد له من جزاآت أن استقل ويتسع الخرق وإن جعل بدلًا فحذفه وأعمال المصدر المحذوف لا يتقاعد عن الفصل بالخبر وليس أجنبيًا من كل وجه؛ وتقدير الفعل أي مقتكم الله إذ تدعون أبعد وأبعد، وقيل: هي ظرف لمقت الثاني.
واعترض بأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت الدعوة بل في القيامة.
وأجيب بأن الكلام على هذا الوجه من قبيل قول الأمير كرم الله تعالى وجهه: إنما أكلت يوم أكل الثور الأحمر وقو لعمرو بن عدس التميمي لمطلقته دختنوس بنت لقيط وقد سألته لبنًا وكانت مقفرة من الزاد: الصيف ضيعت اللبن وذلك بأن يكون مجازًا بتنزيل وقوع السبب وهو كفرهم وقت الدعوة منزلة وقوع المسبب وهو مقتهم لأنفسهم حين معاينتهم ما حل بهم بسببه، وقيل: إن المراد عليه إذ تبين أنكم دعيتم إلى الايمان المنجي والحق الحقيق بالقبول فأبيتم أو أن المراد بأنفسهم جنسهم من المؤمنين فإنهم كانوا يمقتون المؤمنين في الدنيا إذ يدعون إلى الايمان وهو أبعد التأويلات؛ وقال لمكي: {إِذْ} معمولة لا ذكروا مضمرًا والمراد التحير والتنديم واستحسنه بعضهم وأراه خلاف المتبادر.
وادعى صاحب الكشف أن فيه تنافرًا بينًا وعلله بما لم يظهر لي وجهه فتأمل.
وتفسير {مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} بمقت كل واحد نفسه هو الظاهر، وجوز أن يراد به مقت بعضهم بعضًا فقيل: إن الاتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر والرؤساء يمقتون الاتباع لما أنهم اتبعوهم فحملوا أوزارًا مثل أوزارهم فلا تغفل.
{قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} صفتان لمصدري الفعلين، والتقدير امتنا امتاتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين.
وجوز كون المصدرين موتتين وحياتين وهما إما مصدران للفعلين المذكورين أيضًا بحذف الزوائد أو مصدارن لفعلين آخرين يدل عليهما المذكوران فإن الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتمًا فكأنه أمتنا فمتنا موتتين اثنتين على طرز قوله:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ** من المال إلا مسحت أو مجلف

أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت الخ، واختلف في المراد بذلك فقيل: أرادوا بالاماتة الأولى خلقهم أمواتًا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياءتهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث.
وأخرج هذا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة من الحاكم وصححه عن ابن مسعود، وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة، وروى أيضًا عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية البقرة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] والإماتة إن كانت حقيقة في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقة في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا: إن صيغة الأفعال وصيغة التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عدا إماته أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر، ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أسفلها قالوا: إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز عن الآخرة فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان، ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته بمنزلة الواقع، وكذا جعل الأمر في ضيق فم الركية مثلًا بإنشائه على الحال الثانية بمنزلة أمره بنقله عن غيرها، ولذا جعله بعض الأجلة بمنزلة الاستعارة بالكناية فيكون مجازًا مرسلًا مستتبعًا للاستعارة بالكناية، فالمراد بالاماتة هناك الصرف لا النقل، وذكر بعضهم أنه لابد من القول بعموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية استعمال المشترك في معنييه بناء على زعم أن الصيغة مشتركة بين الصرف والنقل، ومن أجاز ما ذكر لم يحتج للقول بذلك.
وفي الكشف آثر جار الله أن إحدى الإماتتين ما ذكر في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] وإطلاقها عليه من باب المجاز وهو مجاز مستعمل في القرآن، وقد ذكر وجه التجوز، وتحقيق ذلك يبتني على حرف واحد وهو أن الإحياء معناه جعل الشيء حيًا فالمادة الترابية أو النطفية إذا أفيضت عليها الحياة صدق أنها صارت ذات حياة على الحقيقة إذ لا يحتاج إلى سبق موت على الحقيقة بل إلى سبق عدم الحياة فهناك إحياء حقيقة، وأما الإماتة فإن جعل بين الموت والحياة التقابل المشهوري استدعى المسبوقية بالحياة فلا تصح الإماتة قبلها حقيقة، وإن جعل التقابل الحقيقي صحت، لكن الظاهر في الاستعمال بحسب عرفي العرب والعجم أنه مشهوري انتهى، وأراد بالمشهوري والحقيقي ما ذكروه في التقابل بالعدم والملكة فإنهم قالوا: المتقابلان بالعدم والملكة وهما أمران يكون أحدهما وجوديًا والآخر عدم ذلك الوجودي في موضوع قابل له إن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتصافه بالأمر العدمي فهو العدم والملكة المشهوران كالكوسجية فإنها عدم اللحية عما من شأنه الوقت أن يكون ملتحيًا فإن الصبي لا يقال له كوسج، وإن اعتبر قبوله أعم من ذلك بأن لا يقيد بذلك الوقت كعدم اللحية عن الطفل أو يعتبر قبوله بحسب نوعه كالعمى للأكمه أو جنسه القريب كالعمى للعقرب أو البعيد كعدم الحركة الإرادية عن الجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية فهو العدم والملكة الحقيقيات لكن في بناء اقتضاء المسبوقية بالحياة وعدمه على ذلك خفاء، وإن ضم إليه التعبير بصيغة الماضي كما لا يخفى على المتدبر.
ثم وجه تسبب الإماتة مرتين والإحياء كذلك لقوله تعالى: {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} أنهم قد أنكروا البعث فكفروا وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم علموا بأن الله تعالى قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم.
وقال السدي: أرادوا بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم في القبر للسؤال وبالإماتة الثانية إماتتهم بعد هذه الإحياءة إلى قيام الساعة وبالإحياءة الثانية إحياءتهم للبعث، واعترض عليه بأنه يلزم هذا القائل ثلاث إحياءات فكان ينبغي أن يكون المنزل أحييتنا ثلاثًا فإن ادعى عدم الاعتداد بالإحياءة المعروفة وهي التي كانت في الدنيا لسرعة انصرامها وانقطاع آثارها وأحكامها لزمه أن لا يعتد بالإماتة بعدها.
وقال بعض المحققين في الانتصار له: إن مراد الكفار من هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الايمان بالله تعالى واليوم الآخر لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله تعالى: {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله} [غافر: 10] كأنهم أجابوا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعونا وكنا نعتقد أن لا حياة بعد الموت فالآن نعترف بالموتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأحوالهما فالذنب المعترف به تكذيب البعث، ولهذا جعل مرتبًا على القول وإنما ذكروا الإماتتين ليذكروا الإحياءين إذ كلتا الحياتين كانتا منكرتين عندهم دون الحياة المعروفة ومقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] فإن هذه كما سمعت لبيان الإقرار والاعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في الدنيا وتلك لبيان الامتنان الذي يستدعي شكر المنعم أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر.
ويرجح هذا القول إن أمر إطلاق الإماتة على كلتا الإماتتين ظاهر.
وتعقبه في الكشف بأنه لا قرينة في اللفظ تدل على خروج الإحياء الأول مع أن الإطلاق عليه أظهر والمقابلة تنادي على دخوله.
ويكفي في الاعتراف إثبات إحياء واحد منهما غير الأول، وقيل: إنما قالوا: {أَمَتَّنَا اثنتين} لأنهما نوعان إحياء البعث وإحياء قبله، ثم إحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند القيام ولم يذكر تقسيمه لأنهم كانوا منكرين لقسميه.
وتعقب بأن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ، والمراد التعدد الشخصي لا النوعي نعم هذا يصلح تأييدًا لما اختاره جار الله، وروى عن جمع من السلف من أن الإحياءات وإن كانت ثلاثًا إنما سكت عن الثانية لأنها داخلة في إحياءة البعث قاله صاحب الكشف ثم قال: وعلى هذا فالإماتة على مختار جار الله إماتة قبل الحياة وإماتة بعدها وطويت إماتة القبر كما طويت إحياءته ولك أن تقول إن الإماتة نوع واحد بخلاف الإحياء فروعي التعدد فيها شخصًا بخلافه، وذكر الإماتة الثانية لأنها منكرة عندهم كالحياتين، ويجب الاعتراف بها لا للدلالة على أن التعدد في الإحياء شخصي والحق أن ذلك وجه لكن قوله تعالى: {اثنتين} ظاهر في المرة فلذا آثر من آثر الوجه الأول وإن كانت الإماتة فيه غير ظاهرة ذهابًا إلى أن ذلك مجاز مستعمل في القرآن فتأمل.
قال الإمام: إن أكثر العلماء احتجوا بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم وموتتين فإحدى الموتتين مشاهد في الدنيا فلابد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي عقيبها موتًا ثانيًا، وذلك يدل على حصول حياة في القبر، وأطال الكلام في تحقيق ذلك والانتصار له، والمنصف يرى أن عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة دون هذه الآية لقيام الوجه المروي عمن سمعت أولًا فيها، وقد قيل: إنه الوجه لكني أظن أن اختيار الزمخشري له لدسيسة اعتزالية، وقال ابن زيد في الآية أريد إحياؤهم نسمًا عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ثم إماتتهم بعد ثم إحياؤهم في الدنيا ثم إماتتهم ثم إحياؤهم وهذا صريح في أن الإحياءات ثلاث، وقد أطلق فيه الإحياء الثالث؛ والأغلب على الظن أنه عني به إحياء البعث، وقيل: التثنية في كلامهم مثلها في قوله تعالى: {ذلكم}. إلخ.
من غير جواب عن الخروج نفيًا أو إثباتًا وإن كان الاستفهام على ظاهره، والمراد طلب الخروج نظير {فارجعنا نَعْمَلْ صالحا} [السجدة: 12] ونحوه لقيل: {اخسؤا فيها} [المؤمنون: 108] أو نحو ذلك كذا قيل، وجوز أن يكونوا طلبوا الرجعة ليعملوا بموجب ذلك الاعتراف لكن مع استبعاد لها واستشعار يأس منه والجواب إقناط لهم ببيان أنهم كانوا مستمرين على الشرك فجوزوا باستمرار العقاب والخلود في النار كما يقتضيه حكمه تعالى وذلك جواب بنفي السبيل إلى الخروج على أبلغ وجه، ولا أرى في هذا الوجه بأسًا ويوشك أن يكون المتبادر، والمعنى ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب {بِأَنَّهُ} أي بسبب أن الشأن {إِذَا دُعِىَ الله} أي عبد سبحانه في الدنيا {وَحْدَهُ} أي متحدًا منفردًا فهو نصب على الحال مؤول بمشتق منكر أو يوحد وحده على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر على حد {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17] والجملة بتمامها حال أيضًا حذفت وأقيم المصدر مقامها، وفيه كلام آخر مفصل في الوفدة وقد تقدم بعضه.
{كَفَرْتُمْ} بتوحيده تعالى أي جحدتم وأنكرتم ذلك {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ} بالإشراك أي تذعنوا وتقروا به، وفي إيراد {إِذَا} وصيغة الماضي في الشرطية الأولى و{إن} وصيغة المضارع في الثانية ما لا يخفى من الدلالة على سوء حالهم وحيث كان كذلك {فالحكم للَّهِ} الذي لا يحكم إلا بالحق ولا يقضي إلا بما تقتضيه الحكمة {العلى الكبير} المتصف بغاية العلوم نهاية الكبرياء فليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله، ولذا اشتدت سطوته بمن أشرك به واقتضت حكمته خلوده في النار فلا سبيل لخروجكم منها أبدًا إذ كنتم مشركين.
واستدلال الحرورية بهذه الآية على زعمهم الفاسد في غاية السقوط، ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى: {فابعثوا حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] الآية وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)} مقابلةُ سؤال الملائكةِ للمؤمنين بالنعيم الخالص يوم القيامة بما يخاطَب به المشركون يومئذٍ من التوبيخ والتنديم وما يراجِعون به من طلب العفو مؤذنة بتقدير معنى الوعد باستجابةِ دعاء الملائكة للمؤمنين، فطيُّ ذكرِ ذلك ضرب من الإِيجاز.
والانتقال منه إلى بيان ما سيحل بالمشركين يومئذٍ ضرب من الأسلوب الحكيم لأن قوله: {إنَّ الذين كفروا ينادون} الآيات مستأنف استئنافًا بيانيًا كأنَّ سائلًا سأل عن تقبل دعاء الملائكة للمؤمنين فأجيب بأن الأهم أن يسأل عن ضد ذلك، وفي هذا الأسلوب إيماء ورمز إلى أن المهم من هذه الآيات كلها هو موعظة أهل الشرك رجوعًا إلى قوله: {وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} [غافر: 6] والمراد بالذين كفروا هنا مشركو أهل مكة، فإنهم المقصود بهذه الأخبار كما تقدم آنفًا في قوله: {ويستغفرون للذين آمنوا} [غافر: 7].
والمعنى: أنهم يناديهم الملائكة تبليغًا عن رب العزة، قال تعالى: {أولئك ينادون من مكان بعيد} [فصلت: 44] وهو بعد عن مرتبة الجلال، أي ينادون وهم في جهنم كما دل عليه قوله: {فهل إلى خروج من سبيل} [غافر: 11].
واللام في {لَمَقْتُ الله} لام القسم.
والمقت: شدة البغض.
و{إذْ تُدْعَون} ظرف ل {مَقتكم أنفسكم}.
و{إذ} ظرف للزمن الماضي، أي حينَ كنتم تدعون إلى الإيمان على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في الدنيا بقرينة {تُدعون} وجيء بالمضارع في {تُدعَون} و{تَكفرون} للدلالة على تكرر دعوتهم إلى الإِيمان وتكرر كفرهم، أي تجدده.
ومعنى: مقتهم أنفسهم حينئذٍ أنهم فعلوا لأنفسهم ما يُشبه المقت إذ حرموها من فضيلة الإِيمان ومحاسن شرائعه ورضُوا لأنفسهم دين الكفر بعد أن أوقظوا على ما فيه من ضلال ومَغِبَّة سوءٍ، فكان فعلهم ذلك شبيهًا بفعل المرء لبغيضه من الضر والكيد، وهذا كما يقال: فلان عدو نفسه.
وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن عمر بن الخطاب أن عمر قال لنساء من قريش يسألْنَ النبي صلى الله عليه وسلم ويستكثرن، فلما دخل عمر ابتدَرْن الحجاب فقال لهن: يا عدُوَّاتتِ أنفسهن أتهبنَني ولا تهِبْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.